فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، ذَاتَ شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْهَاجٍ وَاحِدٍ فِي سُلُوكِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، لَفَعَلَ بِأَنْ خَلَقَكُمْ عَلَى اسْتِعْدَادٍ وَاحِدٍ، وَأَلْزَمَكُمْ حَالَةً وَاحِدَةً فِي أَخْلَاقِكُمْ وَأَطْوَارِ مَعِيشَتِكُمْ، بِحَيْثُ تَصْلُحُ لَهَا شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ زَمَنٍ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُونَ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ الَّتِي يَقِفُ اسْتِعْدَادُهَا عِنْدَ حَدٍّ مُعَيَّنٍ؛ كَالطَّيْرِ أَوِ النَّمْلِ أَوِ النَّحْلِ.
{وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ} أَيْ وَلَكِنْ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، بَلْ جَعَلَكُمْ نَوْعًا مُمْتَازًا يَرْتَقِي فِي أَطْوَارِ الْحَيَاةِ بِالتَّدْرِيجِ، وَعَلَى سُنَّةِ الِارْتِقَاءِ، فَلَا تَصْلُحُ لَهُ شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ حَيَاتِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَامِهِ وَجَمَاعَاتِهِ، وَآتَاكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ فِي الْفَهْمِ وَالْهِدَايَةِ فِي طَوْرِ طُفُولِيَّةِ النَّوْعِ وَغَلَبَةِ الْمَادِّيَّةِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، وَفِي طَوْرِ تَمْيِيزِهِ وَغَلَبَةِ الْوِجْدَانَاتِ النَّفْسِيَّةِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، حَتَّى إِذَا مَا بَلَغَ النَّوْعُ سِنَّ الرُّشْدِ وَمُسْتَوَى اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِظُهُورِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَقْوَامِ بِالْقُوَّةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْفِعْلِ، خَتَمَ لَهُ الشَّرَائِعَ وَالْمَنَاهِجَ بِالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَصْلِ الِاجْتِهَادِ، وَجَعَلَ أَمْرَهُ فِي الْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ وَالِاجْتِمَاعِ شُورَى بَيْنَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِ الْمَكَانَةِ وَالْعِلْمِ وَالرَّأْيِ {لِيَبْلُوَكُمْ} أَيْ لِيُعَامِلَكُمْ بِذَلِكَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لِاسْتِعْدَادِكُمْ {فِيمَا آتَاكُمْ} أَيْ أَعْطَاكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ، فَتَظْهَرُ حِكْمَتُهُ فِي تَمْيِيزِكُمْ عَلَى غَيْرِكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ فِي أَرْضِكُمْ، وَهُوَ كَوْنُكُمْ جَامِعِينَ بَيْنَ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ.
يَظْهَرُ مِثَالُ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ الْأَخِيرَةِ: الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ، فَالْيَهُودِيَّةُ شَرِيعَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشِّدَّةِ فِي تَرْبِيَةِ قَوْمٍ أَلِفُوا الْعُبُودِيَّةَ وَالذُّلَّ، وَفَقَدُوا الِاسْتِقْلَالَ فِي الْإِرَادَةِ وَالرَّأْيِ؛ فَهِيَ مَادِّيَّةٌ جَسَدِيَّةٌ شَدِيدَةٌ لَيْسَ لِأَهْلِهَا فِيهَا رَأْيٌ وَلَا اجْتِهَادٌ، فَالْقَائِمُ بِتَنْفِيذِهَا كَالْمُرَبِّي لِلطِّفْلِ الْعَارِمِ الشَّكِسِ.
وَالْمَسِيحِيَّةُ يَهُودِيَّةٌ مِنْ جِهَةٍ وَرُوحَانِيَّةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَهِيَ تَأْمُرُ أَهْلَهَا بِأَنْ يُسَلِّمُوا أُمُورَهُمُ الْجَسَدِيَّةَ وَالِاجْتِمَاعِيَّةَ لِلْمُتَغَلِّبِينَ مِنْ أَهْلِ السُّلْطَةِ وَالْحُكْمِ، مَهْمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ، وَأَنْ يَقْبَلُوا كُلَّ مَا يُسَامُونَ بِهِ مِنَ الْخَسْفِ وَالذُّلِّ، وَيَجْعَلُوا عِنَايَتَهُمْ كُلَّهَا بِالْأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ، وَتَرْبِيَةِ الْعَوَاطِفِ وَالْوِجْدَانَاتِ النَّفْسِيَّةِ؛ فَهِيَ تَرْبِيَةٌ لِلنَّوْعِ فِي طَوْرِ التَّمْيِيزِ عِنْدَمَا كَانَ كَالْغُلَامِ الْيَافِعِ الَّذِي تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ الْخَطَابِيَّاتُ وَالشِّعْرِيَّاتُ.
وَأَمَّا الْإِسْلَامِيَّةُ فَهِيَ الْقَائِمَةُ عَلَى أَسَاسِ الْعَقْلِ وَالِاسْتِقْلَالِ، الْمُحَقِّقَةُ لِمَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ مَصَالِحِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَبِهَذَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (2: 143) وَقَوْلُهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (3: 110) فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَسَاسِ الِاسْتِقْلَالِ الْبَشَرِيِّ اللَّائِقِ بِسِنِّ الرُّشْدِ وَطَوْرِ ارْتِقَاءِ الْعَقْلِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي كِتَابِهَا قَلِيلَةً، وَفُرِضَ فِيهَا الِاجْتِهَادُ؛ لِأَنَّ الرَّاشِدَ يُفَوَّضُ إِلَيْهِ أَمْرُ نَفْسِهِ، فَلَا يُقَيَّدُ إِلَّا بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْقِلَهُ مِنَ الْأُصُولِ الْقَطْعِيَّةِ، وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ أُمَّتِهِ الْمِلِّيَّةِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَمَنْ أَحَبَّ زِيَادَةَ التَّفْصِيلِ فِي هَذَا الْبَحْثِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعْثَ اللهُ النَّبِيِّينَ} (2: 213) الْآيَةَ (رَاجِعْ ص22 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ) وَتَفْسِيرَ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (43: 33) فِي (ص827 م 15 مِنَ الْمَنَارِ) وَإِلَى فَصْلِ «الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ أَوِ الْإِسْلَامِ» مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ.
وَمِنْ فِقْهِ مَا حَقَّقْنَاهُ عُلِمَ أَنَّ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى بِإِكْمَالِ اللهِ الدِّينَ بِالْقُرْآنِ، وَخَتْمِهِ النُّبُوَّةَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعْلِ شَرِيعَتِهِ عَامَّةً دَائِمَةً، لَا تَظْهَرُ إِلَّا بِبِنَاءِ هَذَا الدِّينِ عَلَى أَسَاسِ الْعَقْلِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَسَاسِ الِاجْتِهَادِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، الَّذِينَ هُمْ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَمَنْ مَنَعَ الِاجْتِهَادَ فَقَدْ مَنَعَ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى وَأَبْطَلَ مَزِيَّةَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَجَعَلَهَا غَيْرَ صَالِحَةٍ لِكُلِّ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَمَا أَشَدُّ جِنَايَةَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ عَلَى الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ عُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ.
{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أَيْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ جَمِيعًا أَنْ تَبْتَدِرُوا الْخَيْرَاتِ وَتُسَارِعُوا إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ مِنْ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَمَنَاهِجِ الدِّينِ، فَمَا بَالُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَنْظُرُونَ مِنَ الدِّينِ وَالشَّرْعِ إِلَى مَا بِهِ الْخِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ، دُونَ حِكْمَةِ الْخِلَافِ، وَمَقْصِدِ الدِّينِ وَالشَّرْعِ، أَلَيْسَ هَذَا هُوَ تَرْكَ الْهُدَى وَاتِّبَاعَ سُبُلِ الْهَوَى؟ فَاسْتِبَاقُ الْخَيْرَاتِ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِلَى اللهِ دُونَ غَيْرِهِ تَرْجَعُونَ فِي الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ؛ فَيُنَبِّئُكُمْ عِنْدَ الْحِسَابِ بِحَقِيقَةِ مَا كُنْتُمْ تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَيَجْزِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا الشَّرَائِعَ سَبَبًا لِلتَّنَافُسِ فِي الْخَيْرَاتِ، لَا سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ بِتَنَافُسِ الْعَصَبِيَّاتِ.
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فِيهِ حُكْمُ اللهِ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فِيهِ: أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فِيهِ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ بِالِاسْتِمَاعِ لِبَعْضِهِمْ وَقَبُولِ كَلَامِهِ، وَلَوْ لِمَصْلَحَةٍ فِي ذَلِكَ وَرَاءَ الْحُكْمِ؛ كَتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ، وَجَذْبِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يُتَوَسَّلُ إِلَيْهِ بِالْبَاطِلِ، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ؛ أَيْ يَسْتَزِلُّوكَ بِاخْتِبَارِهِمْ إِيَّاكَ، وَيُنْزِلُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ لِتَحَكُمَ بِغَيْرِهِ. أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ صُورِيَا، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ «مِنَ الْيَهُودِ»: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ، وَأَنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَنَا يَهُودُ وَلَمْ يُخَالِفُونَا، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا خُصُومَةً فَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ، فَتَقْضِي لَنَا عَلَيْهِمْ، وَنُؤْمِنُ لَكَ وَنُصَدِّقُكَ؛ فَأَبَى ذَلِكَ وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَةِ إِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ لَهُمْ، وَأَمْرُهُ بِالثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ مِنِ الْتِزَامِ حُكْمِ اللهِ وَعَدَمِ الِانْخِدَاعِ لِلْيَهُودِ، وَتَسْجِيلِ هَذِهِ الْعِبْرَةِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ فِتْنَتَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي التَّوْرَاةِ كَذَا وَكَذَا، فَيُصَدَّقُوا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أَيْ فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ حُكْمِكَ بَعْدَ تَحَاكُمِهِمْ إِلَيْكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ هِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، فَاضْطِرَابُهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَاسْتِثْقَالُهُمْ لِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَتَحَاكُمُهُمْ إِلَيْكَ رَجَاءَ أَنْ تَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ، وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ حُكْمِكَ بِالْحَقِّ، وَمُحَاوَلَتُهُمْ لِمُخَادَعَتِكَ وَفِتْنَتِكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ، كُلُّ هَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ مِنْ فَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَرَوَابِطِ الِاجْتِمَاعِ لابد أَنْ تُنْتِجَ وُقُوعَ عَذَابٍ بِهِمْ، قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ هُنَا مَا حَلَّ بِيَهُودِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا بِغَدْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا، إِذَا كَانَ نُزُولُ الْآيَةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ نُزُولُ هَذَا السِّيَاقِ كُلِّهِ قَبْلَ نُزُولِ أَوَائِلَ السُّورَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُمْ عَذَابٌ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِهَا فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ إِجْلَاءَ عُمَرَ مَنْ أَجْلَاهُمْ مِنْهُمْ فِي خِلَافَتِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ بَعْضَ الذُّنُوبِ لِبَيَانِ أَنَّ بَعْضَهَا يُوبِقُهُمْ وَيُهْلِكُهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْعِقَابُ عَلَى جَمِيعِهَا؟ وَهُوَ كَمَا تَرَى، ثُمَّ قَالَ: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} أَيْ لَا يَرُعْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مَا تَرَاهُ مِنْ فُسُوقِهِمْ مِنْ دِينِهِمْ، وَعَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى دِينِكَ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدْ صَارَ الْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ وَالتَّمَرُّدُ مِنْ صِفَاتِهِمُ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عَنْهُمْ.
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ {يَبْغُونَ} بِفِعْلِ الْغَيْبَةِ؛ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنِ الْيَهُودِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ {تَبْغُونَ} عَلَى الِالْتِفَاتِ لِمُخَاطَبَتِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّوْبِيخِ؛ أَيْ أَيَتَوَلَّوْنَ عَنْ حُكْمِكَ بِالْحَقِّ فَيَبْغُونَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ الْمَبْنِيَّ عَلَى الْهَوَى، وَتَرْجِيحَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ؟ رُوِيَ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي خُصُومَةٍ مِمَّا كَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ جَعْلِ دِيَةَ الْقُرَيْظِيِّ ضِعْفَيْ دِيَةِ النَّضِيرِيِّ لِمَكَانِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أَيْ لَا أَحَدَ أَحْسَنُ حُكْمًا مِنْ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بِدِينِهِ، وَيُذْعِنُونَ لِشَرْعِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَجْمَعُ الْحُسْنَيَيْنِ؛ مُنْتَهَى الْعَدْلِ وَالْتِزَامِ الْحَقِّ مِنَ الْحَاكِمِ، وَمُنْتَهَى الْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ مِنَ الْمَحْكُومِ لَهُ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّا تَفْضُلُ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْقَوَانِينَ الْبَشَرِيَّةَ، وَقِيلَ: إِنَّ «اللَّامَ» هُنَا بِمَعْنَى «عِنْدَ» أَوْ لِلْبَيَانِ؛ أَيْ إِنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ عِنْدَ الْمُوقِنِينَ، وَفِي نَظَرِهِمْ، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ. وَمَضْمُونُ الْآيَةِ أَنَّ مِمَّا يَنْبَغِي التَّعَجُّبُ مِنْهُ مِنْ مُنَكَرَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَائِرِ، وَيُؤْثِرُونَهُ عَلَى حُكْمِ اللهِ الْعَادِلِ، وَالْحَالُ أَنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ هُوَ الْعَدْلُ، الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ أَمْرُ الْخَلْقِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ تَفْضِيلُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، الَّذِي يُمَكِّنُ الظَّالِمِينَ الْأَقْوِيَاءَ مِنِ اسْتِذْلَالِ أَوِ اسْتِئْصَالِ الضُّعَفَاءِ، وَهُوَ شَرُّ الْأَحْكَامِ الْمُخَرِّبُ لِلْعُمْرَانِ، الْمُفْسِدُ لِلنِّظَامِ.
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَاتِ أَنْ يُوجَدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَنْ هُمْ أَشَدُّ فَسَادًا فِي دِينِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ عَنْ حُكْمِ اللهِ إِلَى حُكْمِ غَيْرِهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ اسْتِقْلَالَ الْبَشَرِ بِوَضْعِ الشَّرَائِعِ خَيْرٌ مِنْ شَرْعِ اللهِ تَعَالَى، عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أُصُولَ شَرْعِ اللهِ وَلَا قَوَاعِدَهُ، بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَحْصُورٌ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي أَكْثَرُ مَا فِيهَا مِنْ آرَاءِ أَفْرَادٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ، فَهُمْ يَنْتَقِدُونَ كَثِيرًا مِنْهَا بِعَدَمِ مُوَافَقَتِهَا لِمَصَالِحِ النَّاسِ تَارَةً، وَلِأَهْوَائِهِمْ تَارَةً أُخْرَى، يَحْتَجُّونَ بِضَرْبٍ مِنَ الْجَهْلِ عَلَى ضَرْبٍ آخَرَ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}.
والجاهلية هي نسبة إلى جاهل. ولو كانت نسبة مأخوذة من الجهل لجاء القول «جهلية»، لكن الحق يقول هنا: «جاهلية» نسبة إلى جاهل. وحتى نعرف معنى الجاهل بالتحديد لابد لنا أن نتذكر ونستعيد تقسيم النسب الذي قلناه قديمًا، ونعرف أن كل لفظ نتكلم به له معنى، وساعة نسمع اللفظ فالمعنى يأتي إلى الذهن إفراديًا. مثلما نسمع كلمة «جبل» فيقفز إلى الذهن صورة الجبل، لكن لا توجد حالة واضحة للجبل؛ لأن الكلمة لم تكن مصحوبة بحكم.
إذن فهناك معنى للفظ، ولكن هذا المعنى لا يستقل بفائدة. ولكن إن قلنا إن القاهرة مكتظة بالسكان، أو أن مرافقها متعبة، هناك نكون قد أتينا بحكم يوضح لنا ماذا نقصد بقولنا القاهرة.
إن هناك فرقا بين اللفظ حين يؤدي إلى معنى مفرد لا حكم له، وبين لفظ له حكم، ولذلك نجد العربي القديم حين يأتيه لفظ بلا حكم لم يكن لقبله. وها هوذا رجل عربي قال: أشهد أن محمدًا رسولَ الله- بفتح اللام في كلمة «رسول»- وبهذا القول تكون «رسول الله» صفة لمحمد وليس فيها الخبر المطلوب. لذلك قال عربي آخر: وماذا يصنع محمدا؟ ليفلت القائل إلى أنه لم يتلق الخبر. إذن كل لفظ له معنى، وهذا المعنى مفرد ولابد له من نسبة.
مثلما نقول لصديق: «محمد»، ويعرف هذا الصديق محمدا، فيسألك: «وما لمحمد»؟ وبقوله هذا إنما يطلب الخبر ليعرف ماذا حدث له أو منه، فتقول: «محمد زارني أمس». وهكذا تكتمل الفائدة.
إذن فكل لفظ من الألفاظ المفردة له معنى حين يفرد. فإذا ما جاء الحكم تنشأ عنه النسبة. وإن كانت النسبة واقعة وبعتقدها قائلها؛ ويستطيع إقامة الدليل عليها فهذه نسبة علم؛ لأن العلم نسبة مجزوم بها وواقعة ونستطيع إقامة الدليل عليها تماما مثلما نقول: «الأرض كروية» حيث توحي الكلمة أولًا بصورة الأرض وأضفنا إليها نسبة هي «كروية» لأننا نعتقد أنها كروية والواقع يؤكد ذلك، فإذا ما جئنا بالدليل عليها فهذه نسبة علم. إذن فالعلم نسبة مُعتقَدة وواقعة وعليها دليل.
أما إذا كانت النسبة واقعة ومعتقدة ولا نستطيع التدليل عليها فذلك هو التقليد مثلما يكرر الطفل عن والده بعضًا من الحقائق ولكنه لا يستطيع إقامة الدليل عليها، إنه يقلد من يثق به، إذن فالمرحلة الأقل من العلم هي التقليد. أما إذا كان الإنسان يعتقد أن النسبة قد حدثت ولكن الواقع غير ذلك، فهذا هو الجهل، فالجهل ليس معناه أنك لا تعرف، ولكن أن تعرف قضية مناقضة للواقع.
والجاهل يختلف عن الأمي، فالأمي هو الذي لا يعرف، أما الجاهل فهو الذي يعرف قضية مخالفة للواقع ومتشبث بها.